الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (115- 116): {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116)}يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل: إنه لا يضل قوما بعد بلاغ الرسالة إليهم، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة، كما قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} الآية [فصلت: 17].وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} قال: بيان الله، عز وجل، للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة، فافعلوا أو ذَروا.وقال ابن جرير: يقول الله تعالى: وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا، فأما قبل أن يبين لكم كراهيته ذلك بالنهي عنه، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي، وأما من لم يُؤمَر ولم يُنْهَ فغير كائن مطيعا أو عاصيًا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه.وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} قال ابن جرير: هذا تحريض من الله لعباده المؤمنين في قتال المشركين وملوك الكفر، وأن يثقوا بنصر الله مالك السماوات والأرض، ولم يرهبوا من أعدائه فإنه لا ولي لهم من دون الله، ولا نصير لهم سواه.وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صفوان بن مُحْرِز، عن حكيم بن حزام قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم: «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تَئطَّ، وما فيها من موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم».وقال كعب الأحبار: ما من موضع خرمة إبرة من الأرض إلا وملك موكل بها، يرفع علم ذلك إلى الله، وإن ملائكة السماء لأكثر من عدد التراب، وإن حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى مُخّه مسيرة مائة عام..تفسير الآية رقم (117): {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)}قال مجاهد وغير واحد: نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر في سنة مُجدبة وحر شديد، وعسر من الزاد والماء.قال قتادة: خرجوا إلى الشام عام تبوك في لَهَبان الحر، على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهد شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم، يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا، ثم يشرب عليها فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم.وقال ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جُبَير بن مطعم، عن عبد الله بن عباس؛ أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر بن الخطاب: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عَطَش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فَرْثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله عز وجل، قد عَوّدك في الدعاء خيرا، فادع لنا. قال: «تحب ذلك». قال: نعم! فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء فأظَلَّت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.وقال ابن جرير في قوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} أي: من النفقة والظهر والزاد والماء، {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} أي: عن الحق ويشك في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرتاب، بالذي نالهم من المشقة والشدة في سفره وغزوه، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} يقول: ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم، والرجوع إلى الثبات على دينه، {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}..تفسير الآيات (118- 119): {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله، عن عمه محمد بن مسلم الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب بن مالك- وكان قائد كعب من بنيه حين عَمى- قال: سمعت كعب بن مالك يحدّث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غيرها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر، ولم يعاتَب أحدٌ تخلف عنها، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عِير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد، ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذْكَر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنه في تلك الغزاة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَّما يريد غزوة يغزوها إلا وَرّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازًا، واستقبل عدوا كثيرًا فَجَلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وَجْهَه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان- فقال كعب: فَقَلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله، عز وجل، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل، وأنا إليها أصعر. فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا، فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمَّر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، وقلت: الجهاز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعدما فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا من جهازي. ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل ذلك يَتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم- وليت أنّي فعلتُ- ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجتُ في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فَطُفتُ فيهم يحزنني ألا أرى إلا رجلا مَغْموصا عليه في النفاق، أو رجلا ممن عذره الله، عز وجل، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب بن مالك؟» قال رجل من بني سَلمة: حبسه يا رسول الله بُرْداه، والنظر في عَطْفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تَوجَّه قافلا من تبوك حضرني بَثّي فطفقت أتذكر الكَذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا؟ أستعين على ذلك كلّ ذي رأي من أهلي. فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادما، زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا. فأجمعتُ صدقه، وصَبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس. فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له- وكانوا بضعة وثمانين رجلا- فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت، فلما سلَّمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: «تعال»، فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي: «ما خلَّفك، ألم تك قد اشتريت ظهرك؟» قال: فقلت: يا رسول الله، إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سَخَطه بعذر، لقد أعطيتُ جَدَلا ولكنه والله لقد علمتُ لئن حَدّثتك اليوم حديث كَذب ترضى به عني، ليوشكن الله يُسْخطك علي، ولئن حدثتك بصدق تَجدُ عَليّ فيه، إني لأرجو أقرب عقبى ذلك عفوًا من الله، عز وجل والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك». فقمت وبادرني رجال من بني سلمة واتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عَجَزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. قال: فوالله ما زالوا يؤنّبوني حتى أردت أن أرجع فأُكذِّب نفسي: قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا ما قلتَ، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت: فمن هما؟ قالوا: مُرَارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة. قال: فمضيت حين ذكروهما لي- قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا- أيها الثلاثة- من بين من تخلف عنه، فاجتنَبنَا الناس وتغيّروا لنا، حتى تنكرَتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشَب القوم وأجلَدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم، وأقول في نفسي: حَرّك شفتيه برد السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرَض، حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مَشَيت حتى تسورت حائط أبي قتادة- وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي- فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدُك الله: هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت. قال: فعدتُ فنشدته فسكت، فعدت فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم. قال: ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوّرت الجدار. فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطِيٌّ من أنباط الشام، ممن قَدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفِقَ الناس يشيرون له إليّ، حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هَوان ولا مَضْيَعة، فالحق بنا نُواسكَ. قال: فقلت حين قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء. قال: فتيممت به التنور فَسَجرته حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها ولا تقربها. قال: وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، إن هلالا شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: «لا ولكن لا يقربَنَّك» قالت: وإنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما يزال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قال: فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أدري ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب؟ قال: فلبثنا بعد ذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا: قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سَلْع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر. قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَل صاحبيّ مبشرون، وركض إلي رجُل فرسًا، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، فنزعت ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون: لِيَهْنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يُهرول، حتى صافحني وهَنَّأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرُق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مَرّ عليك منذ ولدتك أمّك». قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: «لا بل من عند الله». قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، حتى يعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك». قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله، إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت. قال: فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كَذبَةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال: وأنزل الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} قال كعب: فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا أكون كَذَبْتُه فأهلك كما هلك الذين كَذَبوه حين كَذَبُوه؛ فإن الله تعالى قال للذين كَذَبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، قال الله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95، 96]. قال: وكنا خُلّفنا- أيها الثلاثة- عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسولُ الله أمرَنا، حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وليس تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خُلِّفنا بتخلفنا عن الغزو، وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه، فقبل منه.هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته، رواه صاحبا الصحيح: البخاري ومسلم من حديث الزهري، بنحوه.فقد تضمن هذا الحديث تفسير هذه الآية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها.وكذا رُوي عن غير واحد من السلف في تفسيرها، كما رواه الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} قال: هم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومُرارة بن ربيعة وكلهم من الأنصار.وكذا قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي وغير واحد- وكلهم قال: مُرارة بن ربيعة.وكذا في مسلم: مرارة بن ربيعة في بعض نسخه، وفي بعضها: مرارة بن الربيع.وفي رواية عن سعيد بن جُبَير: ربيع بن مرارة.وقال الحسن البصري: ربيع بن مرارة أو مرارة بن ربيع.وفي رواية عن الضحاك: مُرارة بن الربيع، كما وقع في الصحيحين، وهو الصواب.وقوله: «فسموا رجلين شهدا بدرا»، قيل: إنه خطأ من الزهري، فإنه لا يُعْرَف شُهودُ واحد من هؤلاء الثلاثة بدرا، والله أعلم.ولما ذكر تعالى ما فرّج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب، من هجر المسلمين إياهم نحوا من خمسين ليلة بأيامها، وضاقت عليهم أنفسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رَحُبت، أي: مع سعتها، فسدّدت عليهم المسالك والمذاهب، فلا يهتدون ما يصنعون، فصبروا لأمر الله، واستكانوا لأمر الله، وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخلفهم، وأنه كان عن غير عذر، فعوقبوا على ذلك هذه المدة، ثم تاب الله عليهم، فكان عاقبة صدقهم خيرا لهم وتوبة عليهم؛ ولهذا قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} أي: اصدُقوا والزموا الصدق تكونوا مع أهله وتنجوا من المهالك ويجعل لكم فرجا من أموركم، ومخرجا، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن شقيق؛ عن عبد الله، هو ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا». أخرجاه في الصحيحين.وقال شعبة، عن عمرو بن مُرّة، سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال: إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، اقرءوا إن شئتم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مِنَ الصَّادِقِينَ}- هكذا قرأها- ثم قال: فهل تجدون لأحد فيه رخصة.وعن عبد الله بن عمر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.وقال الضحاك: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما.وقال الحسن البصري: إن أردت أن تكون مع الصادقين، فعليك بالزهد في الدنيا، والكف عن أهل الملة.
|